دار العجزة في المانيا: مقبرة للمسنين – في إحدى ضواحي برلين، تقوم دار عجزة تحمل تاريخًا طويلًا ومبنى شامخًا يمتد عبر العقود. بنيت هذه الدار في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لتكون ملجأً لعدد كبير من المسنين، فتجد داخل جدرانها أشخاصًا جاؤوا من خلفيات مختلفة، لكنهم اجتمعوا في المكان ذاته ليقضوا ما تبقى من حياتهم في عزلة صامتة، تعكس عمق الاغتراب الذي يشعرون به.
داخل أروقة الدار، يمر اليوم بصمت لا يكسره سوى أصوات خطوات الممرضين وصرير الكراسي المتحركة التي تحمل ذكريات أصحابها. هنا، يعيش السيد “هانز”، رجل في الثمانين من عمره، الذي كان ذات يوم مدرسًا محبوبًا في قريته، ولديه أسرة كبيرة وأحفاد. ولكن مع مرور الزمن ووفاة زوجته، تدهورت صحته واضطر أولاده إلى إرساله إلى هذه الدار بعد أن وجدوا صعوبة في العناية به. رغم ذلك، لم يفقد هانز الأمل، وكان يقضي أوقاته في قراءة الكتب وتبادل الحديث مع بعض النزلاء القلائل.
في تلك الدار، تلتقي أرواح متعبة بأخرى مشابهة، حيث يسود شعور عميق بأن الحياة قد طوت صفحاتها الأخيرة. يعيش معظم النزلاء على ذكريات قديمة، صور باهتة من الماضي تحتل زوايا عقولهم وتختلط بصدى الأيام. وكأن الحياة توقفت في لحظة دخولهم لهذا المكان، لتصبح الدار أقرب إلى مقبرة يعيشون فيها، معلقين بين الماضي والمستقبل المجهول.
هناك أيضًا السيدة “إلزا”، التي كانت عازفة بيانو في شبابها. كانت تحلم أن تكرس حياتها للموسيقى، لكن متطلبات الحياة أخذتها في اتجاه آخر. تجد إلزا في دار العجزة مأواها، لكنها تحس بأن روحها ماتت قبل جسدها. تملأها الوحدة، وتغمرها مشاعر الفقد، فهي لم تتلق زيارة من أحد منذ أشهر، وأصبحت تعتمد على ذكرياتها كوسيلة للهروب من الواقع الذي تجده كئيبًا.
يومًا بعد يوم، يتكرر الروتين ذاته، وتصبح الدار أكثر برودة، وكأنها حقًا مقبرة للأحياء. بالنسبة لبعض النزلاء، باتت الدار تجسد نهاية لم يكونوا يتوقعونها، مقبرة بدون شواهد قبور، تذكرهم بالموت كل يوم دون أن يدركوا متى سيحين موعدهم.
في إحدى ليالي الشتاء الباردة، كانت الأمطار تتساقط بغزارة، وصوت الرياح يزمجر من خارج النوافذ العتيقة للدار. كان هانز يجلس وحيدًا في غرفته الصغيرة، ينظر إلى صور قديمة تحتفظ بها زوجته الراحلة في ألبوم باهت. ومع كل صفحة يقلبها، كان يسترجع ذكريات لمّ شمل العائلة، وأصوات الضحكات التي كانت تملأ البيت. لكن تلك الذكريات، التي كانت تملؤه بالفرح يومًا ما، باتت الآن تثقل قلبه كأنها صخور كبيرة تسحبه نحو قاع الوحدة.
أما إلزا، فكانت تتأمل أصابعها التي بدأت ترتعش، تستعيد أيامًا كانت تمسك فيها مفاتيح البيانو بثبات، تملأ القاعات بألحان عذبة. تساءلت في لحظة حزن عميق: كيف انتهى بها الحال هنا؟ أين ذهب كل من أحببتهم؟ لماذا أصبحت هذه الجدران الباردة ملجأها الوحيد؟
في ذلك المساء، جمعتهما صدفة مريبة في غرفة الاستراحة الصغيرة. كان هانز جالسًا بجانب النافذة، بينما دخلت إلزا تبحث عن مكان يبعدها عن رتابة غرفتها. نظر إليها هانز بابتسامة واهنة، وقال: “هل تصدقين أننا كنا هنا لأكثر من سنتين ولم نتحدث قط؟”. تبسمت إلزا، وردت قائلة: “ربما كنا مشغولين بالهروب من الواقع”. كانت تلك بداية حوار طويل بينهما، حوار عن الحياة وأحلام الشباب والأماني الضائعة، وعن الألم الذي لم يعد يتسع له المكان.
مع مرور الأيام، وجد كل من هانز وإلزا في بعضهما شيئًا يبعث الحياة من جديد. بدأا في تنظيم لقاءات صغيرة، يعزفان أحيانًا على بيانو قديم متهالك في صالة الدار، ويجتمع حولهما النزلاء للاستماع. كان النزلاء يجتمعون حولهما، وكأن لحظات الموسيقى تمنحهم نسمة من الحياة تذكرهم بالأيام الخوالي.
عادت الروح إلى الدار تدريجيًا؛ أصبح المكان مليئًا بأصوات النزلاء، قصصهم، وضحكاتهم الخافتة، وكأنهم كسروا جدار الوحدة الذي كان يخنقهم. باتت الدار مكانًا للقصص التي تُحكى، وليس فقط للماضي الذي يُسترجع. تغيرت نظرتهم لأنفسهم، ولم يعودوا يرون الدار “مقبرة للمسنين”، بل منزلًا يجمع أرواحًا لم تُطفأ بعد، تعود لتضيء شعلة الأمل من جديد.
لكن الزمن كان له رأي آخر، ففي صباح شتوي جديد، توفيت إلزا بسلام وهي نائمة، تاركة وراءها فراغًا في قلوب الجميع. وجد هانز بيانوها وعليه ورقة موسيقية كتبتها بخطها المتواضع. عزف هانز الموسيقى، وأحاط به النزلاء ليستمعوا؛ كانت الموسيقى مزيجًا من الحزن والوداع، وكأنها رسالة أخيرة تودعهم بها إلزا.
بعد رحيلها، أدرك هانز أن الحياة في دار العجزة لا تزال تحمل قصصًا جديدة تستحق أن تُروى. ومنذ ذلك اليوم، أصبح يقصّ قصص إلزا وغيرها من النزلاء لكل من يدخل الدار، مؤكدًا أن هذه الجدران التي كانت تُعتبر “مقبرة للمسنين” قد تحولت إلى مكان يخلد ذكرياتهم وحكاياتهم، ويمنحهم شعورًا بأنهم ما زالوا أحياء في قلوب من حولهم.
دار العجزة في المانيا: مقبرة للمسنين
- للمزيد من المواضيع المرجو زيارة موقعنا
- انضم الى مجموعتنا على الفايسبوك: مجموعة الفايسبوك